أنباءالحوض الشرقي.. أخبــار الشرق الموريتاني بين يديك

كوابيس الوزير الأول


بقلم : الشيخ ولد عبد الرحمن
على غير عادته وصل مبكرا إلى مقر عمله في رئاسة الوزراء، لقد اعتاد مولاي ولد محمد الاغظف أن يبدأ مشواره اليومي ابتداء من الساعة العاشرة، خواطر كثيرة تزدحم بها مخيلته منذ اتصل به الرئيس محمد بن عبد العزيز طالبا لقاءه اليوم قبل الثانية عشرة، فتح له التفكير المتصاعد شريط ذكرياته من أول يوم حين دخل المدرسة الابتدائية إلى يوم تعيينه رئيسا للوزراء
ذكريات صاخبة بالعمل الحكومي وغير الحكومي تمتد طول خارطة أيام عمره التي شارفت الستين، أسئلة تنطلق من مخيلته وترتد إليها دون أن تطمئن نفسه إلى جواب محدد.
روتين الوزير
الروتين العادي أن يتصل ديوان الرئيس بالمعني ويخبره بالوقت والمكان وأحيانا كثيرة بموضوع اللقاء حتى يتمكن المسئول من إحضار الوثائق والتقارير اللازمة ولكن الرئيس محمد بن عبد العزيز يعتمد الاتصال المباشر بالوزراء حين تكون له له حويجة خاصة، مثل توظيف أقارب أو توقيع على عقد شخصي أوعائلي وأحيانا حين تكون المهمة تحتاج شرحا مستفيضا من سيدة القصر إذا ما تعلق الأمر بشيء تشتهيه، وربما حين يشتد غضبه على أحدهم، وقد يغضب لغضبها أيضا.

****
لقد زاد مولاي هما على همه ما كان يعرفه من خلق رئيسه إنه قد يدفع به إلى السجن وقد يخبره بالإقالة وقد يحدثه في شيء تافه ويطلب منه كتمانه عنه، أما الاحتمال الأرجح فهو أن يسلمه قائمة بأسماء بعض أقاربه يريد منه أن يقدم مقترحا لمجلس الوزراء بتعيينها في مصالح إدارية مهمة، وليتها هذه فهي أهون الشرور، فجأة طافت على محياه ابتسامة عابرة لقد تذكر موقفا مشابها أيامه الأولى رئيسا للوزراء يومها قدم له الرئيس ثلاثة أسماء من أقاربه طالبا منه توظيفهم، فقال له: سيدي الرئيس أين شهاداتهم وسيرهم الذاتية؟، خرج الرئيس حينها عن صوابه وصاح في وجهه مادا إصبعه إليه في غضبة طفولية: (تكفيهم شهادتي أنا، ابحث لهم عن مكان ولو كان منصبك الذي أنت فيه)، ظلت كلمة (شهادتي أنا)تلح على ذاكرة رئيس الوزراء الذي يعلم أن رئيسه لا يمتلك أي شهادة..أي شهادة!
ذابت الأسئلة كلها وضاعت أجوبتها مخلفة كثيرا من الخوف والترقب، سؤال واحد ظل يدق في ذاكرته كمسمار من حديد، لماذا يستدعيني الرئيس بهذه السرعة قبل اجتماع مجلس الوزراء بيوم واحد يا إلهي ما الذي تخبئه الأقدار لي؟ اللهم اجعل كل ما تقدره خيرا.
دخل مكتبه على عجل وأخذ ملفا به آخر التقارير والاتفاقيات والرسائل الواردة إلى بريد رئاسة الوزراء ثم خرج دون أن يكلم أحدا من الموظفين أو رؤساء المصالح حتى الذين كان رتب معهم مواعيد لم يتذكر أن يطلب من سكرتيره أن يعتذر لهم أو أن يضرب معهم وقتا آخر لمقابلتهم.

*****
سيارة رباعية الدفع معهودة الملامح لدى الحرس الرئاسي تشق الممر المؤدي إلى مدخل القصر الرمادي، إشارات الجنود المصطفين في ترقب على جنبات الممر وابتساماتهم المعهودة كل ذلك لم يأبه به الرجل المستلقي إلى جنب السائق فقد كانت خواطره تسبح في عالم مفعم بالخوف من المجهول كسجين استدعي فجأة للتحقيق، لم يفت ذلك الشرود الذهني على الجنود وهم يفسحون الطريق لسيارة رئيس الوزراء بل تهامسوا بينهم في مكر طريف:
-         ول لقظف اليوم كيف ش منخلع، عزيز أثرو منفكع اعليه.
-         عزيز كل انهار منفكع، خالعتو ذي الثورات إل في العالم على مسافة 500 متر فقط طاف خيال رئيس الوزراء أركان موريتانيا الأربعة واستعاد كل تفاصيل أحاديثه ومهاتفاته منذ انفض سامر لقاء الشعب قبل أقل من أسبوع، كان يفتش كل كلماته التي تفوه بها متوقفا عند المنطوق والمفهوم، ينقب مساربها وتأويلاتها بدقة وكأنه يبحث عن لغم مختبئ، ترى ما هي الكلمة التي تفوه بها لا يلقي لها بالا قد يستحق بها سخط الرئيس إلى الأبد، لم يترك أي شيء تذكره إلا توقف عنده بحذر ودقة...أحاديثه الخاصة والعامة ما اتصل منها بالدولة أو بالرئيس، بالسياسية أو بشؤون العائلة، من يدري؟ فقد تكون مفاكهة عابرة مع أهله تناقلتها الجدران وقديما قيل إن لحيطان الأمراء آذان، كان أثناء تفكيره القلق يطمئن نفسه ويذكرها بالعهد الذي قطعه على نفسه منذ قفوله من لقاء الشعب بأطار، أن لا يكلم أحدا حول ما جرى في ذلك اللقاء الشهر القابل كله مستثنيا ما تحتمه الضرورة من مجاملات محسوبة الكلمات مأمونة العواقب مرجوة النفع دأب المسئولون على لوكها مع من سلط عليهم من رجال الأمن ومتتبعي الأخبار.
أخيرا تذكر كلمة قالها منذ ليلتين في مجلس عائلي خاص، حين كان يجلس مع شيوخ من قبيلته قدموا من الحوض الشرقي كي يطلبوا منه أن يبحث لأبنائهم عن وظائف في إدارته، تذكر أنه قال في معرض حديثه معهم إن لديه عدة وظائف شاغرة ولكنه لا يمكن أن يعلن عنها خشية أن يطلبها الرئيس لبعض أقاربه، يا إلهي..هل كان بين أولئك الأقارب من أخرج تلك الكلمة جدران المنزل فطرقت أذن الرئيس، أصيب بما يشبه انهيارا عصبيا من شدة التوتر والخوف.


*****
فجأة وجد نفسه أمام مكتب الرئيس، استفاق على أحد الحرس الخاص يقول مشيرا إلى الباب الذي انفتح تلقائيا:
-         تفضل..
قالها الرجل بلغة خشنة كأحذية العسكر خالية من أي نبرة احترام كما لو أنه يخاطب سجينا مقبوضا عليه في محاولة انقلابية فاشلة، لم تثر المعاملة الخشنة مشاعر رئيس الوزراء فقد دخل على نفسه ما يشغلها عن ملاحقة ذوقيات حرس عسكري منقلب.

****
ساعة كاملة مرت عقاربها على رئيس الوزراء جسما مستلقيا على أريكة وثيرة وروحا تصلى نار انتظار المجهول، على الرغم من أن هذه ليست المرة الأولى ولا العاشرة التي يستدعيه فيها الرئيس بطريقة مباشرة ويطلب منه الحضور في سيارته الشخصية لا الرسمية، فإن قلب رئيس الوزارء كان ينتفض فرقا مع كل حركة عقرب من عقارب تلك الساعة الذهبية المثبتتة على الجدار، كما ظل ريقه يجف ويرطب طيلة تلك الساعة التي مرت وكأنها قرن كامل الأيام والشهور.
كان يحدق في صورة الرئيس المثبتة على الجدار ويسترجع الأيام الخالية حين كان صاحب تلك الصورة مجرد جندي حارس باهت القسمات يمضي أغلب وقته في خدمة العائلة المحظية لولد الطايع، يا إلهي! كم لمحه زوار القصر غاديا ورائحا في هذه الأروقة حاملا طفلا أو حفاظته، ولكم سمعوا اسمه منادى من الصغير والكبير مجردا من الأبهة والوقار، ولكم طأطا هامته أمامهم مؤديا التحية في أدب واحترام، ولكم طلب منهم بخجل أن يقدموا له بعض الخدمات وما عبأوا به، وكيف لهم أن يعبئوا بأمثاله من صغار الجند، ترى هل سترجع تلك الأيام ويعود صاحب هذه الصورة إلى مكانه الأول؟
لكي تختبئ عن كوابيس الترقب المزعجة عليك أن تلتحف بعباءة الذاكرة، لذلك واصل الوزير الأول إبحاره في تخوم الذكريات، استعاد أيام طفولته في الحوض الشرقي، الحي القديم بالنعمة، كدية أهل عبدوك، حيث كان ورفاقه يلعبون غير بعيد من موقع إحدى أشهر معارك المقاومة..شوارع بروكسل المفعمة بالضوء والحركة...وأخيرا قفزت إلى ذهنه صورة تلك المرأة البائسة التي عبرت أمامه شارع جمال عبد الناصر قبل قليل متوكأة بيمناها على عكاز خشبي وحاملة باليسرى وليدتها..
****
بابا...بابا..بابا..هاتفك يرن منذ ثلاثين دقيقة، والوقت تجاوز الساعة التاسعة والنصف..ماما أمرتني أن أوقظك، فتح رئيس الوزراء عينيه على دنيا مغايرة لما كان خياله يسرح فيه قبل قليل، الحمد لله..هو مجرد حلم..إنه مجرد حلم!

 

ليست هناك تعليقات: