أنباءالحوض الشرقي.. أخبــار الشرق الموريتاني بين يديك

الناجي الوحيد من مجزرة الدعاة يروي تفاصيل القصة


كانت الوجهة النهائية باماكو.. كانوا كوكبة من الدعاة 10 موريتانيين و7 ماليين كان انتماؤهم الجامع هو الإسلام والدعوة إلى الله.. قرروا الخروج مهاجرين إلى الله ورسوله. في حدود الثانية زوالا أخذوا مواقعهم في سيارة أجرة ذات دفع رباعي متجهة إلى نيونو عبر محطات أخرى، ومن هناك سيأخذون سيارة أخرى تقلهم لباماكو..
تأخرت مغادرة فصاله بسبب عطب أصاب عجلة السيارة انهمك السائق في اصلاحه بينما توجه الدعاة إلى مسجد يقع بسوق فصاله لصلاة الظهر... من فصاله توجهوا إلى لامبارا وهنالك أمهم أمير الجماعة الأستاذ الشهيد افكو لصلاة العصر. قبل الوصول إلى "دغوفيه" انفجرت عجلة أخرى وضع السائق مكانها عجلته الاحتياطية... كان سائق السيارة لا يفتأ يتذمر من الحمولة الزائدة رغم أن الدعاة لا يحلمون إلا شنطا صغيرة بها ما خف حمله ويحملون وجبة جاهزة في حافظة صغيرة... تواصلت الرحلة حتى نقطة التفتيش الواقعة على مشارف "دغوفيه" هناك اوقفتهم نقطة عسكرية... ونترك لأحد الناجين رواية ما جرى: "جمعوا بطاقات تعريفنا وأعادوها إلينا ورافقتنا سيارة عسكرية نصب عليها مدفع اقتادتنا إلى نقطة للدرك بدأ الدرك تفتيشا انتقائيا حيث طلب كبيرهم من الداعية عماته ولد اعليات بطاقته فسلمها له فنهره الدركي وهو يتصفح البطاقة وسأله بعجرفة عن اسمه فأجابه الداعية بأن الإسم مكتوب على البطاقة، على اثرها قام الدركي بسحب كل البطاقات وأنزلونا من السيارة وأجلسونا على قنطرة صغيرة بمحاذاة الطريق.. أخذوا السيارة إلى نقطة الدرك وقاموا بتفتيشها بعد دقائق أتوا بالسيارة وانزلوا العفش وطلبوا أن يتعرف كل منا على عفشه.. وأمامنا أخذوا حقيبة شياخ ولد يحي ولد شنان وأفرغوا محتوياتها أمامه... عند ما لم يجدوا أي شيء أمرونا بالركوب كنا 14 راكبا في المؤخرة واثنان في المقدمة... ومرة أخرى رافقتنا سيارة عسكرية إلى ثكنة عسكرية على بعد 18 كلم من "اجيابالي"، عندما وصلنا كانت الساعة وصلت التاسعة مساء وكنا متلهفين لصلاة العشاء بعد أن صلينا المغرب في النقطة السابقة... لم يمنحونا فرصة لذلك أمروا السائق بركن السيارة في مكان قصى من حائط المعسكر ومنعونا من النزول كان ذلك بالتحديد في حدود التاسعة والنصف من مساء السبت أي مساء اليوم الذي انطلقنا فيه من فصاله، جاء قائد المعسكر النقيب "انغويتا" سأعرف لاحقا أن اسمه ينطق بطريقة أخرى... تسلمنا تفحصنا وقال: "هؤلاء هم مصدر ازعاجنا ومشاكلنا... بعد تفحصه لوجوهنا قال النقيب للسائق قد نسمح لك بمواصلة الرحلة مع الماليين". أما الموريتانيين فسنحتجزهم في سايغو أو نتدبر أمرهم، بعد التشاور. عاد النقيب إلى الناحية الأخرى من المعسكر، وحرك سيارتين، كانت أضواؤهما مطفأة... توجهت واحدة إلى الجهة الشمالية الغربية منا، وتوجهت الثانية إلى الجهة الجنوبية الشرقية، وكانوا على مقربة شديدة منا... لم نكن نفهم ما يجري... كنا نتشاور بشأن النزول لأداء الصلاة... بعد عشر دقائق إنهالت النيران من كل الجهات على سيارتنا... وقعت بين إزيد بيه وإفكو أمير الجماعة الذي أصيب إصابات مباشرة أتصور أنها في الصدر... كان ينطق الشهادة بقوة، وبصوت جهير... نطقها لمرتين في المرة الثالثة نطق ...أش...! وأعتقد أنه لفظ أنفاسه الأخيرة... حدث ذلك بسرعة فائقة... تعالى التكبير، لكنه ما لبث أن تقطع لأن الإصابات كانت مباشرة، وقعت أنا تحت السيارة، وفوقي كانت أجسام لم أعرف أصحابها... زحفت تحت السيارة، ولحظتها شعرت أن راكبي المقدمة ما يزالان على قيد الحياة، رغم إصابتهما... في لحظات موالية تقدم أشخاص يحملون شمعة خافتة، وشرعوا في إطلاق نار متقطع على من بقي على قيد الحياة... وطلب أحدهم من الآخر إحضار ذخيرة... استجمعت قواي، وتسللت هاربا لأظهر الحائط في الظلام... هنالك سبقني إثنان وقفزت بصعوبة وسطقنا في ترعة خضخاض طين عميقة خلف الحائط في ظلام حالك... ثالثنا لم أره بعد عبور الحائط، أما الثاني فأبلغني أنه مصاب، وعندما تقدمنا في اتجاه الشمال، وصلنا إلى مياه عميقة، وصلت أعناقنا... عندها أخبرني أنه لا يستطيع خوض هذه المياه العميقة، وأنه عائد على إثره بحثا عن مكان ضحالة المياه عرضت المساعدة، ولكنه عاد أدراجه، أما أنا فواصلت سباحتي واقفا نحو الشمال لأنه كان الجهة المعاكسة لجهة المعسكر، واعتراني بعض الغثيان، وكدت أضيع، لكن أصوات حفل صاخب باديابالي، أقنعتني بأنه علي مواصلة السير مبتعدا في الاتجاه المعاكس لمصدر الأصوات، وهكذا فعلت... كنت تارة أسبح، وتارة ألتقط أنفاسي، وقررت أن لا أتوقف، وأن أبتعد ما وسعني ذلك... بعد منتصف الليل كنت ما زلت أكابد برك المستنقعات، وأشواك النباتات المائية، ومع خيوط الصباح وصلت لغابة صغيرة هنالك صليت الصبح، ومكنني طلوع الشمس من تدبر طريقي... قضيت يوم الأحد بالغابة، كان جسمي ممزقا نهشته الأشواك، وكانت ملابسي قد تمزقت، وراح معظمها... بدأت قواي تخور... مساء الأحد تسلقت شجرة أكلت بعض الأوراق، ونمت نوما متقطعا... في الليلة الثانية واصلت السير في اتجاه القمر، وبدأت أعطش، وبعد ساعات تهاطلت أمطار خفيفة على مقربة مني، تمكنت من شرب بعض مياهها... كانت رغبتي هي أن ألقى بعض الرعاة ليسعفني، وكنت أحيانا أتخيل الثغاء والخوار، ولكن ذلك في النهاية لا يفضي إلى شيء. في اليوم الثالث تغيرت استيراتجيتي، ففي البداية كنت مستعدا لأي شيء إلا الوقوع في أيدي القتلة، أما الآن فالهدف أن يتلقفني أي إنسان... سرت في اتجاه نهاية الغابة، وفجأة ظهر طريق معبد، ولاحظت حركة، تقدمت نحو المكان بآلام كبيرة، وبهواجس أعظم حتى وقفت على ضفة قناة الري المحاذية للطريق... شاهدني الناس وظنوني مجنونا، وكانوا لا يتوقفون، بل يسرعون الخطى... توضأت وصليت، ورجعت أدراجي إلى الغابة بحثا عن خيام أو إبل أو مسافر مسالم، كنت أتغذى على حبوب بعض النباتات وبعض الأوراق، في اليوم الموالي... أعدت الكرة اتجهت هذه المرة إلى الطريق سرت بمحاذاة القناة، ووجدت ثمارا حمراء يانعة في إحدى النباتات أكلت منها سبعا، تراءت لي بناية، وعندما اقتربت وجدتها قرية مهجورة... واصلت المسير إلى شجرة كبيرة وسط القرية المهجورة يغطيها "لغلاف"، وأكلت الثمار الحمراء مرة أخرى... بعد صلاة المغرب تسللت متعبا محبطا بين الحياة والموت إلى قرية مأهولة مجاورة تناهت إلى مسامعي أصواتها، وهناك سألت عن مكان المسجد... ظنوني مجنونا ولكنهم أرشدوني إليه حول المسجد سألت عن الإمام... تحلق حولي الناس، وطلبوا معرفة هويتي، كنت أقول بأنني لست مجنونا، وأنني أطلب ما يستر عورتي، والح في طلب الإمام... أخيرا جاء الإمام ومد يده مرتعشة، وأبلغني أن العسكريين أبلغوا، وأنهم سيأتون لأخذي... فجأة خرج من بين الحضور شخص قال إنه بركنابي يقيم هنا، يتكلم فرنسية طليقة، وعندما أبلغته بأنني موريتاني وأنني أحد الدعاة، طمأنني بأن الناس يتحدثون في الموضوع منذ يوم أمس، وأنه لن يصيبني مكروه... لم يحضر العسكر، فقد أبلغني البركنابي أنهم خافوا الكمائن وألزموا عمدة البلدة بإيصالي إلى موقعهم... في تلك الأثناء منحني أحدهم سروالا خلقا لبسته فوق ما تبقى من سروال القديم لستر العورة والضرورة... أتوا بثلاث دراجات إنتزعوا عصاي التي أتوكأ عليها وحملوني بين راكبين على إحداها وساروا حتى وصلوا "اديابالي"، لقيني النقيب نفسه، وشكر من أحضروني، وسمى أحدهم عمدة. سألني النقيب هل أنت من جماعة الدعاة؟ فأومأت بالإيجاب، وسألني عن إسمي فأجبته بأني إسمي مولود ولد سيدي أحمد ولد الناجم الملقب "اللوله". بدأ النقيب التدقيق في قائمة أمامه وطلب من الجنود الإحتفاظ بي وتسليمي غدا للدرك... قدم لي الجنود وجبة من القطان، ولكني لم أكن أشتهي الأكل، وضعوا سلسلة في يدي، وقيدوا أرجلي بحبل... قلت لهم نحن الدعاة نحن مسلمون مسالمون... قال العسكري بوقاحة أغلق فمك وإلا...! طلبت فك قيدي لقضاء حاجة، وفكوا قيدي حتى قضيت حاجتي وصليت... في الصباح وضعوا السلسلة في يدي، وربطوني إلى شجرة... في حدود التاسعة صباحا أتت جماعة أخرى، كانت معاملتهم ألطف، سألوني هل أفضل القهوة أم الشاي، فقلت أفضل الشاي، وأتوني به، بعد ساعة جاء فريق التحقيق، وبدأوا طرح نفس الأسئلة، وطمأنوني على حياتي، بعد ذلك أعطوني الرائد "جياه" عبر الهاتف، وسألني هل تعرف محمد ولد سيدي محمد فقلت إني لا أعرفه، وهل تعرف مكان السائق، فقلت إني لا أعرف. في حدود الساعة الحادية عشر حملوني إلى "سايغو" وتزايدت العناية بي، ثم أودعوني في معسكر هناك، وقالوا إنهم في انتظار وفد قادم من "ليره"، ليرافقهم. طلبت أخذ حمام، وسمح لي بذلك، وهنالك جاءني عسكري من الأزواديين العاملين بالجيش الماليين، وأعطاني سروالا وقميصا، وأهداني عسكري مالي نعله. وبعد عودتي كاسيا جاءت السيارة وقربوها مني، وحملوا لي الطعام... أعطوني دواء في "سايغو"، ومن مقر ولايتها ذهبنا إلى باماكو، وكانوا في أثناء الطريق يردون على مكالمات لا تنقطع، فهمت أنها تتعلق بي. في باماكو أوصلوني إلى القاعدة العسكرية، وهنالك احتجزوني في قاعة مكيفة صحبة ثلاثة أشخاص لا أعرفهم، وبدأ الأمن العسكري استجوابي... قبل دخولي قاعة الاستجواب، غطوا وجهي وبصري... سألوني عن رحلتي  وصحبتي ومهمتي، وشرحت ما أعرف، ثم سألوني عن الجماعة ما هو هدفها وما معناها؟، وما علاقتها بالسلفيين، وما علاقاتها بالجبهات، ومن نعرف منهم، وسألو عن سندة ولد بوعمامه، وسألوا عن واحد إسمه عبد اللطيف لا أعرفه... وسألوني عن انتماء إياد لجماعة الدعوة والتبليغ. في اليوم الثاني حضروا المحضر، ووقعت عليه، وأحالوني لعقيد أعاد نفس الأسئلة... في نهاية التحقيق سألوني عن أوراقي المالية، وأرغموني على توقيع محضر بوجودها، وعرضوا علي إن فعلت أن أسلم لأحد أقاربي بباماكو، لكنني رفضت العرض. يوم الخميس قابلني السفير الموريتاني، وقلت له الحقيقة كاملة، وطلبت منه أن لا يتركني.. ووعد بذلك، ولكنه عندما دخل لحل أمور عالقة أعادوني إلى السجن، وبعد ساعات أخرجوني وسلموني لمندوب السفارة، وسألوني عن موجوداتي التي استلموها مني، والتي كانت في حدود 35 ألف افرنك إفريقي، و1600 أوقية فأعادوها لي... دخلت السفارة الموريتانية يوم الخميس، وغادرتها نفس اليوم، واستقبلت بحفاوة، ولقيت الأسرة في غيابي العناية اللازمة... لقد وقف معي الجميع وعلى رأسهم الرئيس محمد ولد عبد العزيز، وأحاطوني وزملائي الشهداء وأسرهم بعناية كريمة أخوية تذكر فتشكر وتقدر... إنني في نهاية هذه التجربة أشعر بعبق الإيمان يدفني إلى الدعوة والتبليغ، وإلى الخروج مهاجرا إلى الله ورسوله، فلولا إلحاح الأهل في الزيارة وحقوقهم، لكنت خرجت من جديد مباشرة بعد استكمال عافيتي.

ليست هناك تعليقات: