أنباءالحوض الشرقي.. أخبــار الشرق الموريتاني بين يديك

لـقـائـي مـع الـشـعــب فـي الـنـعـمـة (1-2)

بقلم: حسن ولد احريمو
لعل من حسن حظي شخصياً أن ذكرياتي عن مدينة النعمة عاصمة ولاية الحوض الشرقي تتدثر في حالة وجدانية سديمية متجذرة في اللاشعور، لأنها ذكريات مفتوحة، بلا بداية معروفة على وجه التحديد، إذ لا أتذكر بالضبط متى عرفتُ هذه المدينة، لأنها في الواقع هي أول مكان في العالم فتحت فيه عينيَّ وناهزت التمييز، وأدركت بين أرضه وسمائه الفرق بين تتابع اليوم والليلة والبارحة، وخطوتُ خطواتي الأولى على دروب الحياة النازحة. ومع أنني ولدت في قرية الجريف إلى الجنوب الشرقي من النعمة على بعد 18 كلم، فقد انتقلت الأسرة إلى المدينة بعد ولادتي مباشرة، ومنذ تلك الأيام بدأت قصة لقائي الأول مع هذه المدينة وشعبها الذي سأسعى هنا لفتح صفحات مطوية من تاريخه العريق. وخلال سنوات طفولتي المبكرة جداً كنا نسكن في دارنا يومها الواقعة قبالة «بئر إديلبة»، لا يحول بينها وبينه في بداية مصب البطحاء إلا دار واحدة، هي دار المرحوم آبه لد اميسة.

إديلبة... الحي والبئر

وبئر إديلبة هذه مشهورة جداً، وهي تحمل اسم الحي التاريخي القديم المقابل لها في شرق المدينة ويسمى «حي إديلبه» على اسم قبيلة «إديلبة» العالمة ذات التاريخ المعرفي العريق، التي أنجبت أكبر فقيه نوازلي في تاريخ موريتانيا هو العلامة القصري بن محمد المختار، رحمه الله. وكذلك أنجبت علماء فطاحل آخرين كثراً بعضهم من أبناء وأحفاد العلامة القصري نفسه مثل العلامة حادينا، والعلامة إطول أيامه، وغيرهما من الجهابذة المشاهير، المتميزين عن الجماهير، كما اشتهر من علماء النعمة فطاحل آخرون أيضاً مثل الشريف جعفر بن المهدي النعماوي وغيره كثيرون. وقبيلة «إديلبة» هذه هي أحد فروع قبيلتنا توطن مدينة ولاتة منذ قرون بعد خراب مدينة تنيكي، وانتقل من ولاتة مع الشرفاء العلويين أبناء مولاي صالح أهل الشيخ بن مولاي إسماعيل «شرفاء أهل النعمة»، إثر هجرتهم التاريخية المعروفة منذ قرنين من ولاتة، وبنائهم لمدينة النعمة سنة 1223هجرية 1808 ميلادية، في وادي بنعمان الذي تقوم عليه المدينة الآن، وتحمل اسمه، ولو بشكل جزئي.

النعمة... المدينة القديمة

وقد استمرت مدينة النعمة حتى سبعينيات القرن الماضي وهي بلدة بسيطة تتألف من حيين أحدهما تاريخي شمال البطحاء هو حي «إديلبة»، والآخر جديد بمعايير النصف الثاني من القرن العشرين هو الواقع جنوب البطحاء ويسمى «كولبة»، وهذه التسمية مستمدة، على الأرجح، من لغة البنبارة الذين كانوا يأتون إلى المدينة من مالي، ولأهلها معهم علاقات روحية وثيقة. أما بقية أحياء المدينة الأخرى ضمن نسيجها الحضري الراهن، فمعظمها من مخلفات الهجرة والتقري الفوضوي خلال سنوات الجفاف في العقود الأربعة الماضية. وسنركز الحديث هنا في هذه التدوينة السريعة، التي نكتبها على الريق ومن فيض الخاطر، على مدينة النعمة التاريخية، مع إغفال مدينة البادية، أي أحياء أهل «الرحَّالة» المتماوجة كسديم السحب الخُلب المتناثرة حواليها.

عبقرية المكان والزمان

وتقع مدينة النعمة على بعد حوالي 1200 كلم تقريباً إلى الشرق من العاصمة نواكشوط. وقد اختار بُناتها لها مكاناً هو نهاية باطن منطقة الحوض عند قدم هضاب السن المرتفعة، التي تحيط بالمدينة من ثلاث جهات تقريباً، ولا يبقى منفتحاً تجاه الباطن والبر الغربي الفسيح سوى الجهة الغربية، على رغم وجود هضبة صغيرة في الجنوب الغربي تدعى «الشوْفية»، وكذلك وجود قلب «نـْـقادي» الشهير -في الشعر الشعبي- الواقع في الشمال الغربي منفصلاً عن الهضبة، قائماً بذاته على علو مرتفع، وبشكل لا يكاد المرء يشك معه في أنه كان ذات يوم بركاناً شديد الفوران. وبين هذه المساحة المحصورة تتمدد الآن أحياء المدينة التاريخية، وكذلك الفوضوية، لا يفصلها سوى بطاح ومجاري سيول أكبرها البطحاء الوسطى التي تشق وسط المدينة تماماً قادمة من مغارس نخيل «بْحيرة» الواقعة هي الأخرى في أقصى شرق المدينة ممتدة من سن العدْلة أو العديلة بالتصغير، إلى بئر «إديلبة» المذكورة.
وتمتاز مدينة النعمة بموقعها الاستراتيجي الواقع في وسط منطقة الحوض حيث تقع مقاطعة ولاتة شمالها، وتنبدغة غربها، وجكني إلى الجنوب الغربي، وأمورج وعدل بكرو إلى الجنوب، وباسكنو وانبيكة لحواش إلى الشرق والجنوب الشرقي، هذا فضلاً عند عدد كبير من القرى والبلدات يحيط بالمدينة نفسها، ويتبع مقاطعتها المركزية. ولهذا السبب اختار الإداريون الاستعماريون مع مطلع القرن الماضي ترسيم المدينة كعاصمة لدائرة الحوض، بدلاً من شقيقتها التاريخية ولاتة.

النعمة وولاتة... قصة شقيقتين

والحقيقة أن ولاتة والنعمة التاريخية مدينتان شقيقتان، بل هما مدينة واحدة يفصل بين أحيائها أكثر من 120 كلم. والأولى هي أم الثانية التي أنجبتها وأخرجتها من قماطها آية للعالمين. ولا حاجة للتذكير بتاريخ ولاتة العريق، وقد سجل صفحات من ماضيها الأثيل بعض كبار المؤرخين، كما زارها أشهر الرحالة كابن بطوطة -الذي تحدث عنها باسم ولاتن- كما أنها ذات حضور واسع في النصوص السودانية التومبكتية، وفي مدونات الرحالة والمستكشفين الأوروبيين في العصر الحديث. هذا فضلاً عمن أنجبتهم ولاتة نفسها علماء أفذاذ يعدون من حسنات الدهر على بلادنا مثل العلامة القاضي محمد يحيى الولاتي، والعلامة الإمام محمد يحيى بن سليمة اليونسي.
وبسبب الترابط التاريخي العضوي بين المدينتين فإن سكان النعمة التاريخية القديمة ذوو ثقافة حضرية عريقة جداً كعراقة ثقافة أهل ولاتة، ولذلك كان أهالي المدينتين طيلة القرون الماضية بمثابة جزيرتين حضريتين تعيشان، للمفارقة، في عمق الصحراء في عالم من البداوة العارمة. وأعتقد أن عبارة «جزيرة» هنا هي الأنسب بدلاً من كلمة «واحة».

فن العمارة في ولاتة والنعمة

ويظهر هذا التحضر خاصة في فن العمارة في ولاتة والنعمة، حيث يحمل ملامح مدينية إسلامية عريقة، وسأورد هنا نبذة بسيطة عن البيت الولاتي- النعماوي أقتطفها من مادة كنت قد نشرتـُها سنة 2000 في صحيفة «البيان» الإماراتية، عن مدينة ولاتة، وبعض هذه النبذة موجود على الموسوعة الدولية الحرة «ويكيبيديا» تحت اسم «ولاتة». ومبرر هذا الاقتباس أن البيت النعماوي، والبيت الولاتي القديم متطابقان في كل شيء تقريباً، ولذلك أرجو قراءة ما يلي على أنه وصف للبيوت النعماوية التقليدية كلما ذكرت البيوت الولاتية وتكويناتها: «وتشتهر البيوت الولاتية بفن عمارة خاص بها مستوحى من العمارة العربية الإسلامية خاصة منها الأندلسية والمغربية، ويبدو ذلك من طراز مواد البناء، وأيضا في أنواع الزخرفة مع جنوح إلى البساطة بعض الشيء وميل إلى استخدام الخامات المحلية من فخار وجص وجليز وحجارة ملونة عالية الجودة تضمن قوة البناء وانسجامه مع المشهد البيئي العام الذي وضع ولاته فوق مرتفعات الحوض جاثمة بجلالها كقلعة تحرس هدوء الصحراء وتتبرج بجمالها في وجه المرتفعات الشامخة. وقد حاول باحثون غربيون وموريتانيون تفسير معاني لوحات الفسيفساء التي تزين جدران ومداخل البيوت الولاتية، وقد اتفقوا على عودة بعضها لفترة ما قبل الإسلام بما يحمله من أساطير وثنية في حين أن بعضها الآخر إسلامي مغربي أندلسي الملامح لحد يجعل البعض يعتقد أنه جلب من فاس أو تلمسان وهو أمر يكاد يكون متعذر الإثبات أو النفي على حد سواء. والبيت الولاتي يضمن نوعاً من التهوية الطبيعية وذلك بتقليله من الأبواب، فلكل منزل بابان لا أكثر أحدهما مخصص للرجال والضيوف، والآخر للنساء والحريم عامة. كما أن في كل بيت مجلساً يسمى محلياً "درب" وهي إشارة إلى موقعه كأقرب مكان من باب الشارع حتى لا تقع عين الزائر على الحريم. وللحريم أيضا مجلس يكون بابه داخلياً أي متفرعاً من إحدى الغرف فقط ويسمى "السقفة" ولا يخلو بيت من دور علوي يسمى "القرب"، والسلم الصاعد إليه يكون متسعاً لحد يسمح بفناء تحته توضع فيها قدور الماء لتبقى باردة». انتهـ...
وليس الطابع العمراني العريق هو وحده الدال على البعد الحضري المتأصل لأهالي مدينة النعمة القديمة، بل إن ذلك يبدو كأحسن ما يكون أيضاً في السجايا ومكارم الأخلاق، وأذكر في هذا المقام أن الوالد رحمه الله، وهو أساساً من أهالي منطقة الرقيبة بولاية لعصابة، كان أحياناً عندما ينبهني إلى بعض مكارم الأخلاق يقول لي: هل رأيت أحداً من شرفاء أهل النعمة يرفع صوته في الشارع، هل رأيت أحداً منهم يجري أو يمشي مسرعاً بطريقة خفيفة مستهجنة؟ والحال أن أهالي هذه المدينة في حيي الشرفاء وإديلبة هم مضرب مثال في مكارم السجايا والأخلاق، وهم في الغاية من حسن السمت والرزانة والتحضر.

التحضر فن وذوق وأخلاق


كما أن عندهم أيضاً عادات وظواهر اجتماعية كثيرة مفارقة بعض الشيء لأسلوب حياتنا نحن أهل البادية، فالعرس عندهم يتم بطقوس شديدة التعقيد والتنظيم، ويُعين لكل عرس «حاكم» يكون هو الآمر الناهي في تنظيم كل شيء بشكل صارم للغاية خلال أيام الفرح. كما أن طقوس المولد النبوي عندهم أكثر من متميزة، حيث ينخرط الجميع في الأمداح وترداد البردة والهمزية، ويرقص العامة والخاصة «رقصة المولود» إظهاراً للفرح بنعمة مولده صلى الله عليه وسلم. وكذلك وعلى عكس جفاء أهل البادية فالسلام وإلقاء التحية على السابلة ومن يصادف المرء في طريقه مهمان جداً عند أهل النعمة القديمة. وكثير من هذه السجايا الحضرية، إضافة إلى ثقافة الاقتصاد -يعرف الاقتصاد قديماً بأنه فن تدبير شؤون المنزل- والتأنق في الملبس والمأكل، والإكثار من البهار والأبزار في المطبخ، يعتقد أن هؤلاء الشرفاء جاؤوا بها من منطقة توات بجنوب الجزائر الآن التي هاجر منها الكثير من أسر الشرفاء العلويين السجلماسيين، أبناء سيدي حمو الشريف وأبناء مولاي علي الشريف، وفق هجرات متتابعة ترجم لبعض أعيانها وأبنائهم البرتلي صاحب «فتح الشكور»، والمحجوبي صاحب: «منن الرب الغفور». (يــتــبـــع إن شاء الله).

ليست هناك تعليقات: