أنباءالحوض الشرقي.. أخبــار الشرق الموريتاني بين يديك

العقيد أن ولد عبد المالك سيرة من التضحيات


بقلوب خاشعة، وحزن تكاد تبيض منه العيون، وصبر جميل على مصاب جليل، ودعت موريتانيا واحدا من أبنائها البررة، وقائدا من أبرز ضباطها العسكريين نذر حياته لخدمة وطنه، وظل وفيا لقيم التضحية والفداء، والذود عن حياض الوطن بشجاعة وشهامة إلى أن أسلم الروح لباريها صباح الخميس الموافق 26 أغشت 2012 

فكان حقا علينا صلة لما بيننا من أرحام، واعترافا بدور الرجل وخصاله الحميدة ومكانته السامقة في المؤسسة العسكرية، أن نذكر ببعض المحطات الكبرى في تاريخه الحافل بالأمجاد والبطولات، وأن نخلد بعض مآثره، و نترحم على روحه الطيبة راجين العلي القدير أن يمن عليه بالرحمات ويدخله فسيح الجنات إنه سميع مجيب الدعوات.
ولد أن ولد عبد المالك في ربيع سنة 1946 في أحواز الحوض غير بعيد من مدينة ولاته التاريخية في مرابع أولاد داود حيث العزة والمجد والمنعة، لأبيه سيد محمد ولد عبد المالك قاضي ولاته وأحد أساطين العلم فيها، وأمه خديجة بنت بولبات الجكنية المشهورة بالورع والاستقامة والصلاح، فجمع بهذا النسب الشريف من الخصال والمحامد والمزايا ما ميزه عن كثير من أقرانه، وكأن الأقدار قد انتقت له واسطة العقد في عشائر الشرق عمومة وخؤولة، فلا غرابة إذن أن تكون همته بقدر مكانته الاجتماعية، وتكوينه العلمي في الكتاتيب والمحاظر في تلك المنارات التاريخية المعروفة.
دخل سلك التعليم النظامي في منتصف الخمسينيات في مدارس ولاته والنعمه قبل أن يلتحق بإعدادية كبولاني في روصو التي أكمل فيها المرحلة الثانوية، وفي تلك الأثناء كانت البلاد تخطو نحو الاستقلال في ظرف إقليمي ودولي بالغ التعقيد وكانت في أمس الحاجة إلى جهود أبنائها المخلصين فما كان من صاحبنا إلا أن لبى نداء الوطن سنة 1965 فالتحق بوحدات الجمالة التي مثلت النواة الأولى للجيش الوطني فخدم فيها بإخلاص وتفان وجاب المهامه والثغور دفاعا عن الحوزة الترابية وحرمة الوطن.
وفي سنة 1968 شارك في مسابقة اكتتاب ضباط الدرك الوطني، واستفاد من دورة تدريبية في فرنسا التي عاد منها سنة 1970 برتبة ملازم وعين قائدا لكتيبة الدرك الوطني في كل من كيهيدي والعيون وفي هذه المرحلة أبان عن عبقرية في القيادة وحظي باحترام مرؤوسيه وتقدير ورضى رؤسائه قبل أن يرقى إلى رتبة ملازم أول وتسند إليه قيادة مدرسة الدرك الوطني للمرة الأولى، حيث أشرف على تكوين وتأطير دفعات من هذا القطاع الحيوي الهام.
وفي منتصف السبعينيات بدأت نذر حرب الصحراء ثم اندلعت في نهاية سنة 1975 ويومها كان الملازم أول أن ولد عبد المالك في طليعة الضباط الشباب في الخطوط الأمامية ضمن المهام القتالية التي أسندت لوحدات الدرك الوطني، ثم ما لبث أن كلف بملف أسرى الحرب ومفقوديها وهو ملف بالغ الحساسية والأهمية وقد أداره بقدر عال من المهنية والكفاءة وفي تلك الأثناء رقي إلى رتبة نقيب.
وحين وضعت الحرب أوزارها، واستلم الجيش مقاليد السلطة في البلاد عين النقيب أن ولد عبد المالك قائدا لسرايا الأمن الرئاسي، ثم أعيد ثانية إلى مدرسة الدرك الوطني قائدا لها لبضعة أشهر، وفي هذه الحقبة من حياته تزوج السيدة نزهه بنت السالم فال ولد متار البومالكية فكانت له نعم الزوجة تشد من أزره وتعينه على نائبات الزمان.
وفي سنة 1982 رقي إلى رتبة رائد وعين قائدا مساعدا لأركان الدرك الوطني، ثم حول إلى المدرسة العسكرية لمختلف الأسلحة قائدا مساعدا ليساهم ميدانيا في تكوين وتأطير دفعات من ضباط الجيش الوطني.
وبعد وصول العقيد معاوية ولد سيد أحمد الطايع إلى الحكم تم تعيين الرائد أن ولد عبد المالك قائدا للمكتب الثاني في قيادة الأركان الوطنية، ثم مديرا للديوان العسكري برئاسة اللجنة العسكرية للخلاص الوطني سنة 1986 وهي السنة التي رقي فيها إلى رتبة مقدم.
وفي السنوات الأخيرة من عقد الثمانينيات، وفي غمرة الأزمة السياسية والمحاولات الانقلابية المتكررة، والمخاطر المحدقة بالوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي تم اختيار المقدم أن ولد عبد المالك قائدا عاما لأركان الدرك الوطني وهي الوظيفة التي شغلها من أوائل سنة 1987 إلى أواسط سنة 2003، ورقي خلالها إلى رتبة عقيد ومثلت نقطة تحول كبير في تاريخ هذا القطاع الحيوي من حيث المصادر البشرية، والتأهيل والجاهزية، والمستلزمات اللوجستية ، والسمعة الطيبة في أداء الواجب وفي الانضباط وحسن السيرة والسلوك.
ولا يختلف اثنان اليوم في موريتانيا على التقييم الايجابي لمأمورية العقيد أن ولد عبد المالك في قطاع الدرك الوطني، فقد عرف بجميع خصال القيادة من حزم وعزم ومهابة وصرامة وحكمة وأمانة وعدل وإخلاص ، وسيذكره التاريخ رمزا وطنيا، وقامة شامخة في تاريخ موريتانيا المعاصر.
وحين يتعلق الأمر بحياته الخاصة بعيدا عن متطلبات القيادة ومقتضيات المسؤولية تراه حميد الطباع، عف اللسان، صافي السريرة، كريما محبا للخير وساعيا إليه، بارا بوالديه والأقربين، وبالعشيرة كلها، فجراه الله خير جزائه، وتغمده في فسيح جناته، وبارك في خلفه وألهمهم من بعده الصبر والسلوان، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.

ليست هناك تعليقات: